في خطوة تعكس تسارع وتيرة التسلح الجزائري بالتوازي مع توتّرات إقليمية متفاقمة، أكدت صور أقمار صناعية حديثة حصول الجزائر رسميا على أول دفعة من مقاتلات “سو-35” الروسية كانت مصر قد رفضت تسلمها، وذلك في سياق توقيع الرئيس عبد المجيد تبون على قانون التعبئة العامة الذي يُنذر بتحولات عسكرية وأمنية في المنطقة، ويطرح تساؤلات حول توجهات الجزائر المستقبلية في ظل بيئة دبلوماسية متأزمة، خصوصًا مع دول الساحل.
ونشر موقع Overclockers.ru الروسي المتخصص في الشؤون التقنية والعسكرية، معلومات مدعومة بصور أقمار صناعية تُظهر وجود عدة طائرات من طراز سو-35 رابضة على مدرج قاعدة “أم بواقي” الجوية شرق الجزائر، فيما الصور، التي جرى التقاطها في مارس الماضي، أكدت وصول هذه المقاتلات الروسية المتطورة في صيغتها التصديرية، وهو ما يعزز التقارير التي تحدثت عن بدء التسليم الرسمي للصفقة الروسية – الجزائرية.
وكانت صور سابقة قد التُقطت داخل مصنع “كومسومولسك-نا-آموري” في أقصى شرق روسيا، أظهرت تفكيك مقاتلات “سو-35” وتحميلها على طائرات نقل عملاقة من طراز “أنطونوف 124″، قبل نقلها نحو الجزائر، ما شكل أول دليل مرئي على نقل هذه الطائرات خارج روسيا بعد سنوات من الجدل حول مستقبَل نسخها التصديرية.

وكانت هذه المقاتلات الروسية الصنع قد وصلت الجزائر بعد أن تم تصنيعها لصالح الجيش المصري، قبل أن تلغي القاهرة الصفقة مع موسكو عام 2018، والتي كانت تضم أكثر من 20 مقاتلة “سو-35” تحت “ضغط سياسي غربي”، في إطار إعادة تموضع استراتيجي مع واشنطن وفق تعبير الموقع الروسي، فيما كان من المتوقع أن تُمنح هذه الطائرات لإيران لاحقًا، بعد أن أعلنت طهران في 2023 أنها طلبت هذا النوع رسميا لصالح قواتها الجوية، بيد أنها رفضت الحصول عل تلك الشحنة التي عدلت عنها مصر مما أثار تكهنات حول إمكانية أن تطلب شحنة خاصة بها أو تسعى للحصول على ترخيص لإنتاجها محليا.
بالمقابل، ظلت هذه الشحنة مجمدة، قبل أن تأتي المفاجأة في 13 مارس، حين ظهرت الطائرات المخصصة سابقًا للقاهرة وهي تحمل تمويها مصريا لكن بعلامات تعريف جزائرية واضحة، ما أكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الصفقة تحوّلت سرا من مصر إلى الجزائر.
ووفق ما صرح به رئيس الشركة الموحدة لصناعة الطائرات في روسيا، فاديم باديخا، للصحيفة الروسية، فإن موسكو قررت توسيع خط إنتاج “سو-35” بسبب تزايد الطلبات من إيران واحتياجات الجيش الروسي في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، وظهور مشترين محتملين آخرين مثل إندونيسيا وكوريا الشمالية، وفي هذا السياق، يبدو أن الجزائر حصلت على أولوية التسليم، مستفيدة من فجوة في العقود الدولية القائمة.
ورغم التسلّم الفعلي لطائرات “سو-35″، إلا أن الجزائر لا تنوي الاعتماد عليها كقوة رئيسية، وفق المصدر ذاته، إذ أن الأسطول الجوي الجزائري قائم حاليا على طائرات “سو-30MKA”، التي شكلت لسنوات العمود الفقري للقوات الجوية، وبالتالي، فإن وجهة الجزائر الاستراتيجية اليوم باتت واضحة في الحصول على مقاتلات “سو-57” الشبحية من الجيل الخامس.
وقد أكد الموقع الروسي Overclockers أن الجزائر أبرمت بالفعل طلبية لشراء طائرات “سو-57” وتم التصديق عليها رسميًا في فبراير 2025، فيما من المنتظر أن تصل أول طائرة من هذا الطراز قبل نهاية السنة الجارية، ما يجعل الجزائر ثالث دولة في العالم – بعد روسيا والصين – تُشغّل مقاتلة من الجيل الخامس غير أمريكية.
ورغم ما يُقال عن صعوبة تشغيل طرازي “سو-35″ و”سو-57” معًا بسبب اختلاف الأنظمة، إلا أن الخبراء الروس يؤكدون أن تكاليف تشغيل “سو-57” مماثلة تقريبًا لـ”سو-35″، مع فارق أن الأولى تتفوّق في الاستشعار والتخفي والقدرات الهجومية المتطورة، ما يضع القوات الجوية الجزائرية على أعتاب قفزة نوعية في قدراتها.
ويأتي هذا التسارع العسكري بالتزامن مع خطوة غير مسبوقة تمثلت في توقيع الجزائر على “قانون التعبئة العامة” الذي يُمكّن الدولة من إعادة تنظيم المجتمع اقتصادًا ومواردًا وإعلامًا في حال التهديدات الخارجية، وهو ما قرأه كثيرون على أنه إعلان ضمني لحالة استعداد استراتيجي واسع النطاق، يرتبط بمخاوف الجزائر من سيناريوهات أمنية مستقبلية، سواء من حدودها الجنوبية أو الغربية.
من جهة ثانية، رغم هذا الاستعداد المتسارع على المستوى العسكري، إلا أن الجزائر تواجه اليوم أزمة دبلوماسية حادة مع محيطها الإفريقي والأوروبي، بعدما انهارت علاقاتها تماما مع النيجر اثر انقلاب 2023 ورفض وساطتها بشكل مباشر، كما تراجعت مكانتها في كل من مالي وبوركينا فاسو، اللتين تقاربتا مع روسيا وتركيا، حيث تم إقصاء الجزائر من أي دور في أمن الساحل، وترافق ذلك مع رفض تكتل الساحل الجديد (مالي – النيجر – بوركينا) لأي شراكة مع الجزائر، بل وقطعوا قنوات الاتصال الدبلوماسي معها بشكل فعلي ثم علاقاتها المقطوعة مع المغرب، ومع عدد من العواصم الأوروبية، ما جعل الجزائر في عزلة إقليمية لم تعهدها منذ الاستقلال.
وما تفعله الجزائر اليوم لا يمكن اختزاله في مجرد صفقات تسلّح أو تحديث روتيني لقواتها الجوية، بل هو تجسيد لتحول عميق في عقيدتها الأمنية والعسكرية، يُعبر عن توجّه نحو عسكرة الدولة في سياق عزلة جيوسياسية متنامية، فالبلد الذي لطالما قدّم نفسه كقوة غير منحازة ومدافعة عن القضايا الإفريقية، يُعيد ترتيب أولوياته في صمت، ويغلق نوافذه على محيطه المباشر مقابل الارتماء في أحضان المحور الأوراسي – الروسي.
لكن هذا الانخراط العسكري الحاد، يطرح إشكاليات خطيرة، فمن جهة، تُراكم الجزائر ترسانة من الطائرات المتقدمة – من “سو-30MKA” إلى “سو-35″ فـ”سو-57” – لكنها تفقد في المقابل أدوات الوساطة، وشبكات التأثير، ومرونة الخطاب السياسي التي كانت تميز حضورها في المنطقة، ومن جهة أخرى، يبدو أن النظام الجزائري يستثمر في خطاب التهديد أكثر من الاستثمار في أدوات التفاوض والانفتاح، وهو ما يجعل التسلح ليس تعبيرًا عن قوة، بل ردّ فعل على فشل في الاحتواء والتموقع.
وما يزيد المشهد تعقيدًا هو أن هذه العسكرة تتزامن مع انسداد سياسي داخلي، وغياب مشروع اقتصادي متماسك يمكن أن يُشكل قاعدة صلبة لأي توسع استراتيجي حقيقي، فالقوة الجوية وحدها لا تكفي لبناء عمق استراتيجي، ما لم تُدعّم بتكامل دبلوماسي، واقتصادي، وتواصلي فعال.
وفي واقع الأمر، يُمكن قراءة هذه الاندفاعة نحو التسلح على أنها محاولة للهروب إلى الأمام، وتفادي مواجهة الأسئلة الحقيقية: لماذا تفقد الجزائر موقعها الطبيعي في الساحل؟ لماذا تُستثنى من مبادرات أمنية كبرى؟ ولماذا تتحوّل إلى طرف غير مرغوب فيه في محيطها الإفريقي؟، والجواب لا يكمن في العتاد العسكري، بل في عجز النظام عن تجديد أدواته التحليلية ورؤيته الاستراتيجية، فحالة العزلة ليست ظرفا طارئا، بل نتيجة تراكمية لسياسات خطابية جوفاء، ومواقف متذبذبة، وتحالفات تكتيكية قصيرة النفس، وفي هذا السياق، يبدو أن “سو-57” ليست إلا واجهة براقة لأزمة عمقها أعمق من أن تُحل بسرب طائرات، مهما بلغت قدرة هذه الطائرات على التخفي.
وإذا استمرت الجزائر في هذا المسار – تسليح خارجي بلا حضور سياسي داخلي قوي، وانكماش دبلوماسي مقابل توتر أمني – فإنها قد تجد نفسها على رأس جيش قوي، لكنه بلا قضية ولا حلفاء، وما يُخيف في هذه الصورة بالنسبة للعديد من المحللين السياسيين الجزائريين، ليس فقط فشل المشروع، بل حجم الثمن الذي سيدفعه المجتمع، حين تُوجه هذه الترسانة إلى الداخل بدل الخارج، في لحظة ضيق أو ارتباك.