في الزاوية الشمالية الغربية لموريتانيا، حيث يلتقي المحيط الأطلسي بكثبان الصحراء، تقف نواذيبو كمنصة ممتدة على خارطة الاقتصاد، لا مجرد مدينة ساحلية أخرى. حينما يهب نسيم البحر ليحمل رائحة السمك الطازج الممزوج بدخان عربات نقل الحديد، تعرف أن المكان ليس عاديًا. هنا، حيث تترنح السفن في انتظار التفريغ أو التصدير، وحيث تقف الأرصفة شاهدة على تاريخ طويل من الحركة التجارية، تُرسّخ نواذيبو حضورها كعاصمة اقتصادية فعلية للبلد.
لكن وسط هذا الزخم، يظل السؤال الجوهري يطرق الأذهان: هل تملك نواذيبو المقومات الكافية لمجاراة الدور الاستراتيجي المنوط بها؟ أم أن الطموح أكبر من الواقع؟
جغرافيا الثروة
نواذيبو، التي تبعد 465 كيلومترا شمال العاصمة الموريتانية نواكشوط، تقع في شبه جزيرة، تطل على المحيط الأطلسي وتجاور مدينة الكويرة المغربية. هي عاصمة ولاية داخلة نواذيبو التي تضم مقاطعات إنال، التميميشات، نواذيبو، بولنوار، والشامي. وتُعد هذه الولاية، وفق وصف المختصين، أغنى ولايات البلاد وأول أقطابها الاقتصادية.

ويؤكد الخبير الاقتصادي الحسين محمد عمر أن المدينة تمثل قلب الاقتصاد الوطني النابض، فمنها تُصدّر موريتانيا خامات الحديد التي جعلت منها واحدة من أكبر الدول العربية إنتاجًا لهذا المعدن.
كل صباح، يشق القطار العملاق طريقه من مناجم الزويرات شمالًا، قاطعًا أكثر من 650 كيلومترًا محمّلاً بآلاف الأطنان من الحديد باتجاه ميناء نواذيبو، في مشهد يختصر قصة المدينة مع المعادن. ولن تكون الصورة مكتملة دون ذكر قطاع الصيد البحري. فالميناء المستقل وميناء خليج الراحة يحتضنان أساطيل وطنية ودولية، ويشغلان آلاف “البحّارة” كما يُسَمُّون محليًا.
ويصف الصحفي سيدي إبراهيم الداه، المتخصص في الشأن الاقتصادي، نواذيبو بأنها “ركيزة إنتاج موريتانيا”، مؤكدا أن المدينة وحدها تستقطب عشرات الآلاف من فرص العمل، خاصة في الصيد والمعادن، بالإضافة إلى مجمع صناعي ضخم أقامته شركة بولي هاندن بقيمة 100 مليون دولار، يوفر أكثر من 2500 فرصة عمل.
حكاية مدينة
حينما وطأ البرتغاليون شواطئها لأول مرة عام 1441، أطلقوا عليها اسم كاب بلاه (Cabo Blanco). بعدها، جاء الفرنسيون وسمّوها “بور إتين” أو (Port-Étienne) نسبة إلى وزير مستعمراتهم، وشيّدوا ميناءً لتصدير السمك ومصنعًا لتعليبه يعمل به 200 شخص.
لاحقًا، باتت السفن القادمة من مرسيليا تمد المدينة بالمياه قبل اكتشاف بحيرة بولنوار. وفي 1920، أنشأ الفرنسيون مطارًا، كانت تهبط فيه الطائرات المتجهة إلى المستعمرات الإفريقية وأمريكا الجنوبية.

ذاك التاريخ الاستعماري لم يذهب سدى. فقد ترك بنى أولية سرعان ما تحولت إلى أسس اقتصادية قوية. ومع تدشين ميناء معدني جديد في الآونة الأخيرة، تتوسع المدينة أكثر فأكثر لتحتل موقعًا متقدمًا على خارطة تجارة المعادن والطاقة في المنطقة.
منطقة حرة.. لكن بشروط
تحوّل نواذيبو إلى منطقة تجارية حرة، كما أعلنته الحكومة في يوليو 2024، أُحيط بآمال اقتصادية كبرى. ويقول الصحفي سيدي إبراهيم الداه إن المنطقة الحرة جذبت استثمارات وصلت إلى 100 مليار أوقية، مع مشاريع واعدة مثل مطار جديد وتوسعات ضخمة في مجال الصيد.
لكن الخبير الاقتصادي الحسين محمد عمر ينبه إلى أن القانون الأصلي الذي أنشأ المنطقة الحرة سنة 2013، تم إلغاؤه واستبداله بقانون جديد في 2024، ما يشي بخلل بنيوي في التخطيط.

“النظام الضريبي هو الركيزة الأساسية التي تعمل على إغراء المستثمرين في المناطق الحرة حول العالم”، يشرح عمر، محذرًا من أن ضعف البنية التحتية والخدمات – من الفنادق إلى المياه والكهرباء – قد يشكل عقبة كأداء أمام هذا التحول.
ويعزز الباحث سيد محمد الطالب أعمر هذه الرؤية، مشيرًا إلى أن المدينة تعاني من فساد مالي يستنزف عائدات التعدين والصيد، وبنية لوجستية متواضعة، ومشاكل بيئية مقلقة كالانبعاثات السامة والتلوث الذي يهدد الثروة السمكية ويسبب أمراضًا تنفسية. ويرى أنه لتحقيق دورها كعاصمة اقتصادية، يجب الاستثمار في الصناعات التحويلية، وفرض معايير بيئية صارمة، وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
نواذيبو ليست فقط بوابة تجارية
نواذيبو ليست فقط بوابة تجارية، بل محطة عبور للمهاجرين السريين. قربها من جزر الكناري جعلها قبلة للراغبين في الوصول إلى أوروبا.
ورغم أن عدد سكانها لا يتجاوز 100 ألف نسمة، إلا أنها تضم جاليات من إسبانيا وفرنسا والمغرب، وآخرين من الصين وكوريا الجنوبية وأفريقيا جنوب الصحراء، مما يمنحها طابعًا دوليًا استثنائيًا.

لكن المدينة لا تزال، في رأي المتخصصين، على مفترق طرق. فبين تاريخ طويل من التجارة والاستغلال، وواقع إداري وخدمي هش، تكمن معركة نواذيبو الحقيقية، معركة تكامل اقتصادي حقيقي، يرتكز على الشفافية، والتنظيم، والاستثمار في الإنسان.
“النجاح في هذه المسارات”، يقول الباحث سيد محمد الطالب أعمر، “سيمكن نواذيبو من تحقيق طفرة تنموية تُوازن بين الإنتاج الصناعي والحفاظ على الموارد الطبيعية، مما يُحقق تنمية مستدامة تعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني ككل”.
وحتى ذلك الحين، تظل نواذيبو، بكل ما تحمله من تناقضات، أشبه بقاطرة ضخمة تنتظر أن تُشحَن بالوقود اللازم لتنطلق.